الاعجاز البلاغي
في قصة يوسف عليه السلام
الآية ( 1 ) قال تعالى : ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ يوجد من الناحية البلاغية في هذه الآية إشارة إلى البعيد وذلك في قوله: ﴿ تلك آيات ﴾ وهذه الإشارة إنما جاءت لبعد المنزلة وعلو المرتبة في الكمال والشأن . الآية ( 3- 4 ) قال تعالى : ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ * إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ نلحظ في هذه الآية من الناحية البلاغية فناً جميلاً وهو ما يعرف بـ " براعة التخلص" وهو امتزاج آخر ما يقدم الكاتب أو الشاعر على المدح من نسيب أو فخر أو وصف أو أدب أو زهد أو مجون أو غير ذلك بأول بيت من المدح ،وقد يقع ذلك في بيتين متجاورين، وقد يقع في بيت واحد ، وبعبارة أخرى : هو امتزاج ما يقدمه الكاتب بأول ما استهل به الكلام ؛ فعلى الكاتب أو الشاعر أن ينتقل انتقالة مرهفة ؛ لكي لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع في المعنى الثاني ، وهذا الباب من البلاغة قديم ، وهو من أجل أبواب المحاسن . وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه وجه من وجوه الإعجاز، وهو دقيق في عين من لا يحسن استجلاء مظاهر الجمال ، خفي يخفى على غير الحذاق من ذوي النقد، وهو في الكتاب العزيز من أوله إلى آخره، ومنه هذه الآية التي بين أيدينا : ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ * إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ فإنه سبحانه وتعالى أشار بقوله: أحسن القصص إلى قصة يوسف، فوطأ بهذه الجملة إلى ذكر القصة مشيراً إليها بهذه النكتة من باب الوحي. أما قوله تعالى : ﴿ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ فهو صفة هذه القصة ؛ فإن المتأمل في هذه القصة يجد أن كل قضية فيها قد ختمت بخير، وكل ضيق انتهى إلى فرج ، وكل شدة آلت إلى رخاء ؛ فإن أولها رميه في الجب، فكانت عاقبته السلامة، وبيع ليكون عبداً فاتخذ ولداً، ومراودة امرأة العزيز له فعصمه الله، ودخوله السجن ، وخروجه ملكاً ، وظفر إخوته به أولاً ، وظفره بهم آخراً ، وتطلعه إلى أخيه بنيامين ، واجتماعه به ، وعمى أبيه ، ورد بصره،وفراقه له ، ولأخيه ، واجتماعه بهما ، وسجود أبويه وإخوته له تحقيقاً لرؤياه من قبل ، وأيضاً لما تتضمنه من العبر والنكت والحكم والعجائب وقال الكرامي : سميت أحسن القصص لاشتمالها على ذكر حاسد ومحسود ، ومالك ومملوك ، وشاهد ومشهود ، وعاشق ومعشوق ، وحبس وإطلاق ، وسجن وخلاص ، وخصب وجدب ، وغيرها مما يعجز عن بيانها طوق الخلق، ونلحظ أيضاً أن قوله: ﴿رَأَيْتُهُمْ ﴾ في قوله : ﴿ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ أنها ليست تكراراً ، وإنما هي كلام مستأنف ، على تقدير سؤالٍ وقع جواباً له ، كأن يعقوب عليه السلام قال له وذلك حين قال يوسف عليه السلام : " إني رأيت أحد عشر كوكباً " فكأنما قال له : " وكيف رأيتهما ؟" : أي ما هي حالهما عند رؤيتك لهما ؟ ؛ فقال : ﴿ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ ، إضافة إلى هذا توجد استعارة مكنية في قوله : ﴿ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ ؛ حيث شبه المذكورات بقومٍ عقلاء ساجدين ، فأخذت حكمهم ؛ لأنها لما وصفت بما هو خاص بالعقلاء وهو السجود أجري عليها حكمهم ، كأنها عاقلة ، وهو كثير شائع في كلام العرب ، فعند ملابسة الشيءِ الشيءَ من بعض الوجوه فيعطى حكماً من أحكامه ؛ إظهاراً لأثر الملابسة والمقاربة. ولو رجعنا لبداية القصة نجد أنها افتتحت بثلاث آيات ؛ لتؤكد قضايا ثلاث : * تفرد القرآن الكريم بالسمة البيانية .* تمثل معانيه في شكل لسانيٍّ مفهوم ومقنع للعقل .* الإعلان عن القصة بصيغةٍ مثيرة ومشوقة ؛ فهي أحسن القصص.ومن جانب آخر فإن أكثر ما اجتمع في كتاب الله من الحروف المتحركة ثمانية وذلك في موضعين الأول : قوله تعالى : ﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا﴾ فبين ياء رأيت وواو كوكباً ثمانية أحرف كلهن متحرك والثانى قوله :﴿حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي﴾على قراءة من حرك الياء في قوله"لي" و" أبي" .